الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***
قال رضي الله عنه: وذلك معنى القياس لغة، فالصورة بلا معنى يكون فاسدا من الدعوى، ثم شرطه فإن وجود الشئ على وجه يكون معتبرا شرعا لا يكون إلا بوجود شرطه، ثم ركنه فقوام الشئ يكون بركنه، ثم حكمه فإن الشئ إنما يخرج من حد العبث والسفه إلى حد الحكمة بكونه مفيدا، وذلك إنما يكون بحكمه، ثم بالدفع بعد ذلك فإن تمام الالزام إنما يتبين بالعجز عن الدفع. فأما الأول فهو معرفة القياس لغة، فنقول: للقياس تفسير هو المراد بصيغته، ومعنى هو المراد بدلالته، بمنزله فعل الضرب فإن له تفسيرا هو المعلوم بصورته وهو إيقاع الخشبة على جسم، ومعنى هو المراد بدلالته وهو الايلام. فأما تفسير صيغة القياس فهو التقدير، يقال: قس النعل بالنعل: أي قدره به، وقاس الطبيب الجرح إذا سبره بالمسبار ليعرف مقدار غوره، وبهذا يتبين أن معناه لغة في الاحكام: رد الشئ إلى نظيره ليكون مثلا له في الحكم الذي وقعت الحاجة إلى إثباته، ولهذا يسمى ما يجري بين المناظرين مقايسة، لأن كل واحد منهما يسعى ليجعل جوابه في الحادثة مثلا لما اتفقا على كونه أصلا بينهما، يقال: قايسته مقايسة وقياسا، ويسمى ذلك نظرا أيضا إذ لا يصاب إلا بالنظر عن إنصاف، ويسمى ذلك اجتهادا مجازا أيضا لأن ببذل المجهود يحصل هذا المقصود. وأما المعنى الذي هو المراد بدلالته، وهو أنه مدرك من مدارك أحكام الشرع، ومفصل من مفاصله، وإنما يتبين هنا ببسط الكلام فنقول: إن الله تعالى ابتلانا باستعمال الرأي والاعتبار، وجعل ذلك موضوعا على مثال ما يكون بين العباد مما شرعه من الدعوى والبينات، فالنصوص شهود على حقوق الله تعالى وأحكامه بمنزلة الشهود في الدعاوى، ومعنى النصوص (شهادته، بمنزلة) شهادة الشاهد، ثم لا بد من صلاحية الشاهد بكونه حرا عاقلا بالغا، فكذلك لا بد من صلاحية النص لكونه شاهدا بكونه معقول المعنى، ولا بد من صلاحية الشهادة بوجود لفظها، فكذلك لا بد من صلاحية الوصف الذي هو بمنزلة الشهادة، وذلك بأن يكون ملائما للحكم أو مؤثرا فيه على ما نبين الاختلاف فيه، ولا بد مما هو قائم مقام الطالب فيه وهو القائس، ولا بد من مطلوب وهو الحكم الشرعي، فالمقصود تعدية الحكم إلى الفروع، ولا بد من مقضي عليه وهو عقد القلب ليترتب عليه العمل بالبدن إن كان يحاج نفسه، وإن كان يحاج غيره فلا بد من خصم هو كالمقضي عليه من حيث إنه يلزمه الانقياد له، ولا بد من قاض فيه وهو القلب بمنزلة القاضي في الخصومات، ثم بعد اجتماع هذه المعاني يتمكن المشهود عليه من الدفع كما في الدعوى المشهود عليه يتمكن من الدفع بعد ظهور الحجة فإن تمام الالزام إنما يتبين بالعجز عن الدفع، وربما يخالفنا في بعض هذا الشافعي وغيره من العلماء أيضا.
قال فريق من العلماء: الاصول غير معلولة في الأصل ما لم يقم الدليل على كونه معلولا في كل أصل. وقال فريق آخر: هي معلولة إلا بدليل مانع، والاشبه بمذهب الشافعي رحمه الله أنها معلولة في الأصل إلا أنه لا بد لجواز التعليل في كل أصل من دليل مميز، والمذهب عند علمائنا أنه لا بد مع هذا من قيام دليل يدل على كونه معلولا في الحال، وإنما يتبين هذا في مسألة الذهب والفضة، فإن استدلال من يستدل من أصحابنا على كون الحكم الثابت فيهما معلولا بأن الاصول في الأصل معلولة لا يكون صحيحا حتى يثبت بالدليل أن النص الذي فيهما معلول في الحال. وحجة الفريق الأول أن الحكم في المنصوص قبل التعليل ثابت بصيغة النص وفي التعليل تغيير لذلك الحكم حتى يكون ثابتا بالوصف الذي هو المعنى في المنصوص، فيكون ذلك بمنزلة المجاز من الحقيقة، ولا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل، بل أولى، فالمجاز أحد نوعي اللسان والمعنى الذي يستنبط من المنصوص ليس من نوع اللسان في شئ، يوضحه أن المعاني تتعارض في المنصوص وباعتبار المعارضة لا يتعين وصف منها بل كل وصف يحتمل أن يكون هو المعنى الموجب للحكم فيه والمحتمل لا يكون حجة، ولا بد من ترجيح بعض الاوصاف عند الاشتغال بالتعليل، والترجيح بعد المعارضة لا يكون إلا بالدليل، على أنا نفهم من خطاب الشرع ما نفهم من مخاطباتنا، ومن يقول لغيره أعتق عبدي، هذا لم يكن له أن يصير إلى التعليل في هذا الامر، فكذلك في مخاطبات الشرع لا يجوز المصير إلى التعليل حتى يقوم الدليل. وحجة الفريق الثاني أن الدليل الذي دل على صحة القياس وجواز العمل به يكون دليلا على جواز التعليل في كل أصل، فإن ما هو طريق التعليل وهو الوقوف على معنى النص والوصف الذي هو صالح لأن يكون علة للحكم موجود في كل نص، فيكون جواز التعليل أصلا في كل نص، وتكون صفة الصلاحية أصلا في كل وصف، فيكون التعليل به أصلا ما لم يظهر المانع، بمنزلة العمل بالاخبار، فإن وجوب العمل بكل خبر ثبت عن صاحب الشرع هو الأصل حتى يمنع منه مانع، ولا تتحقق المعارضة الموجبة للتوقف بمجرد اختلاف الآثار عند إمكان العمل بالكل، فكذلك لا تثبت المعارضة الموجبة للتوقف عند كثرة أوصاف الأصل مع إمكان العمل بالكل إلا أن يمنع من ذلك مانع، وليس هذا نظير خطاب العباد في معاملاتهم، فإن ذلك مما لا نشتغل فيه بطلب المعنى، لجواز أن يكون خاليا عن معنى مؤثر وعن حكمة حميدة بخلاف خطاب الشرع، ألا ترى أن هناك وإن كان التعليل فيه منصوصا لا يصار إلى التعدية، فإنه لو قال أعتق عبدي هذا فإنه أسود لم يكن له أن يعدي الحكم بهذا التعليل إلى غيره، وفي خطاب الشرع فيما يكون التعليل منصوصا يثبت حكم التعدية بالاتفاق، كقوله عليه السلام: الهرة ليست بنجسة لانها من الطوافين عليكم والطوافات ودعواهم أن في التعليل تغيير الحكم كلام باطل، فإن الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص كما كان قبل التعليل، وإنما التعليل لتعدية الحكم إلى محل آخر لا نص فيه على ما نبينه في فصل الشرط، فعرفنا أن أثر التعليل في المنصوص من حيث شرح الصدر وطمأنينة القلب، وذلك تقرير للحكم لا تغيير كالوقوف على معنى اللسان. وقولهم إن في كل وصف احتمالا، قلنا: لا كذلك بل الأصل في النصوص وجوب التعليل لتعميم الحكم على ما قررنا، فبعد هذا في كل وصف احتمال أنه ليس بمراد بعد قيام الدليل على كونه حجة (وما ثبت حجة بالدليل فإنه لا يخرج بالاحتمال من أن يكون حجة) وإنما يثبت ذلك بالدليل المانع. وأما الشافعي فإنه يقول: قد علمنا بالدليل أن علة النص أحد أوصافه لا كل وصف منه، فإن الصحابة اختلفوا في الفروع باختلافهم في الوصف الذي هو علة في النص، فكل واحد منهم ادعى أن العلة ما قاله، وذلك اتفاق منهم أن أحد الاوصاف هو العلة، ثم ذلك الوصف مجهول والمجهول لا يصلح استعماله مع الجهالة لتعدية الحكم فلا بد من دليل التمييز بينه وبين سائر الاوصاف حتى يجوز التعليل به، فإنه لا يجوز التعليل بسائر الاوصاف لاتفاق الصحابة على ذلك وعلمنا ببطلان التعليل في مخالفة الاجماع. ثم على أصله التعليل تارة يكون للمنع من التعدية، وتارة يكون لاثبات التعدية، ولا شك أن الوصف الذي به يثبت الحجر عن التعدية غير الوصف الذي يثبت به حكم التعدية، فما لم يتميز أحد الوصفين من الآخر بالدليل لا يجوز تعليل النص. وأما علماؤنا فقد شرطوا الدليل المميز، ولكن بطريق آخر سوى ما ذكره الشافعي على ما نذكره في بابه (إن شاء الله) وشرطوا قبل ذلك أن يقوم الدليل في الأصل على كونه معلولا في الحال، لأن النصوص نوعان: معلول، وغير معلول، والمصير إلى التعليل في كل نص، بعد زوال هذا الاحتمال، وذلك لا يكون إلا بدليل يقوم في النص على كونه معلولا في الحال. وإنما نظيره مجهول الحال إذا شهد، فإنه ما لم نثبت حريته بقيام الدليل عليه لا تكون شهادته حجة في الالزام، وقبل ثبوت ذلك بالدليل الحرية ثابتة بطريق الظاهر، ولكن هذا يصلح للدفع لا للالزام، فكذلك الدليل الذي دل في كل نص على أنه معلول ثابت من طريق الظاهر وفيه احتمال، فما لم يثبت بالدليل الموجب لكون هذا النص معلولا لا يجوز المصير إلى تعليله لتعدية الحكم إلى الفروع، ففيه معنى الالزام، وهو نظير استصحاب الحال، فإنه يصلح حجة للدفع لا للالزام لبقاء الاحتمال فيه. فإن قيل: أليس أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله جائز ما لم يقم الدليل المانع، وقد ظهرت خصوصيته في بعض الافعال، ثم لم يوجب ذلك الاحتمال في كل فعل حتى يقال لا يجوز الاقتداء به إلا بعد قيام الدليل؟ قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام مقتدى به، ما بعث إلا ليأخذ الناس بهديه وهداه، فيكون الاقتداء به هو الأصل وإن كان قد يجوز أن يكون هو مخصوصا ببعض الاشياء، ولكن الخصوصية في حقه بمنزلة دليل التخصيص في العموم والعمل بالعام مستقيم حتى يقوم دليل التخصيص، فكذلك الاقتداء به في أفعاله. فأما هنا فاحتمال كون النص غير معلول ثابت في كل أصل مثل احتمال كونه معلولا، فيكون هذا بمنزلة المجمل فيما يرجع إلى الاحتمال، والعمل بالمجمل لا يكون إلا بعد قيام دليل هو بيان، فكذلك تعليل الاصول، يوضحه أن هناك قد قام الدليل الموجب لعلم اليقين على جواز الاقتداء به مطلقا، وهو قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} وههنا الدليل هو صلاحية الوصف الموجود في النص، وذلك إنما يعلم بالرأي فلا ينعدم به احتمال كون النص غير معلول، لانا قد بينا أن في تعليل النص معنى الابتلاء، والابتلاء بما يكون غير معلول من النصوص أظهر، وبعدما تحققت المساواة في معنى الابتلاء لا بد من قيام الدليل في المنصوص على أنه معلول للحال. وبيان هذا في الذهب والفضة، فإن حكم الربا ثابت فيهما بالنص وهو معلول عندنا بعلة الوزن. وأنكر الشافعي هذا فيحتاج إلى أن يثبت بالدليل أنه معلول. وفيه نوعان من الدليل: أحدها قوله عليه السلام: يد بيد ففيه إيجاب التعيين وهو متعد إلى الفروع لانه لا بد من تعيين أحد البدلين في كل عقد، فإن الدين بالدين حرام بالنص وذلك ربا، كما قال عليه السلام: إنما الربا في النسيئة ثم وجوب التعيين في البدل الآخر هنا لاشتراط المساواة، فالمساواة في البدلين عند اتفاق الجنس شرط بقوله عليه السلام: مثل بمثل وعند اختلاف الجنس المساواة في العينية شرط بقوله عليه الصلاة والسلام: وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد وهذا حكم متعد إلى الفروع، فإن الشافعي يشترط التقايض في بيع الطعام بالطعام مع اختلاف الجنس بهذا النص، ونحن لا نجوز بيع قفيز من حنطة بعينها بقفيز من شعير بغير عينه غير مقبوض في المجلس وإن كان موصوفا وحل التفاضل بينهما، لأن بترك التعيين في المجلس ينعدم المساواة في اليد باليد، وشرطنا القبض في رأس مال السلم في المجلس لتحقيق معنى التعيين، فعرفنا أنه معلول، والتعليل بالثمنية يمنع التعدية، فباعتبار كونه معلولا يكون متعديا إلى الفروع، فالوصف الذي يمنع التعدية لا يقدح فيه ولا يخرجه من أن يكون شاهدا، بمنزلة صفة الجهل في الشاهد فإنه لا يكون طعنا في شهادته لانه لا يخرج به من أن يكون أهلا للولاية، والشهادة تبتنى على ذلك، بخلاف صفة الرق فإن الطعن به يمنع العمل بشهادته حتى تثبت حريته بالحجة، لانه يخرج به من أن يكون أهل الولاية والصلاحية للشهادة تبتنى على ذلك. ومثال هذا أيضا ما قاله الشافعي في تحريم الخمر إنه معلول من غير قيام الدليل فيه على كونه معلولا، بل الدليل من النص دال على أنه غير معلول، وهو قوله عليه السلام: حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب وإثبات الحرمة وصفة النجاسة في بعض الاشربة المسكرة لا يكون تعدية للحكم الثابت في الخمر، ألا ترى أنه لا يثبت على ذلك الوجه حتى لا يكفر مستحله، ولا يكون التقدير في النجاسة فيه كالتقدير في الخمر، وإنما تلك حرمة ثابتة باعتبار نوع من الاحتياط، فلا يتبين به كون النص معلولا. ثم تعليل النص قد يكون تارة بالنص، نحو قوله تعالى: {كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم} وقول النبي عليه السلام لبريرة: ملكت بضعك فاختاري وقد يكون بفحوى النص كقول النبي عليه السلام في السمن الذي وقعت فيه فأرة: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي، وإن مائعا فأريقوه فإن في هذا إشارة إلى أنه معلول بعلة مجاورة النجاسة إياه. وكذلك خبر الربا من هذا النوع كما بينا، وقد يكون بالاستدلال بحكم النص كقوله عليه السلام في دم الاستحاضة: إنه دم عرق انفجر فتوضئي لكل صلاة. وقد يكون على اتفاق القائلين بالقياس على كونه معلولا، فعند وجود شئ من هذه الادلة في النص سقط اعتبار احتمال كونه غير معلول.
وإنما قدمنا الشرط لأن الشرعيات لا تصير موجودة بركنها قبل وجود الشرط، ألا ترى أن من أراد النكاح فلا بد له من أن يبدأ بإحضار الشهود، ومن أراد الصلاة لم يجد بدا من البداية بالطهارة وستر العورة. وهذه الشروط خمسة: أحدها أن لا يكون حكم الأصل مخصوصا به بنص آخر، والثاني أن لا يكون معدولا به عن القياس، والثالث أن لا يكون التعليل للحكم الشرعي الثابت بالنص بعينه حتى يتعدى به إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه، والرابع أن يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله، والخامس أن لا يكون التعليل متضمنا إبطال شئ من ألفاظ المنصوص. أما الأول: فلان التعليل لتعدية الحكم، وذلك يبطل التخصيص الثابت بالنص، فكان هذا تعليلا في معارضة النص لدفع حكمه والقياس في معارضة النص باطل. وأما الثاني: فلان التعليل يكون مقايسة والحكم المعدول به عن القياس الثابت بالنص لا مدخل للقياس فيه على موافقة النص، ولا معتبر بالقياس فيه على مخالفة النص، لأن المقصود بالتعليل إثبات الحكم به في الفرع والقياس ينفي هذا الحكم، ولا يتحقق الاثبات بحجة النفي كما لا يتحقق التحليل بما هو حجة التحريم. وأما الثالث: فلان المقايسة إنما تكون بين شيئين ليعلم به أنهما مثلان فلا تصور له في شئ واحد ولا في شيئين مختلفين لا تتحقق المماثلة بينهما، فإذا لم يتعد الحكم بالتعليل عن المنصوص عليه يكون شيئا واحدا لا تتحقق فيه المقايسة، وإذا كانا مختلفين لا يصيران بالتعليل مثلين، ومحل الانفعال شرط كل فعل وقول كمحل هو حي فإنه شرط ليكون صدمه ضربا وقطعه قتلا، واشتراط كونه حكما شرعيا، لأن الكلام في القياس على الاصول الثابتة شرعا، وبمثل هذا القياس لا يعرف إلا حكم الشرع، فإن الطب واللغة لا يعرف بمثل هذا القياس. وأما الرابع: فلان العمل بالقياس يكون بعد النص، وفي الحكم الثابت بالنص لا مدخل للقياس في التغيير كما لا مدخل له في الابطال، فإذا لم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله كان هذا بيانا مغيرا لحكم النص أو مبطلا له، ولا معتبر بالقياس في معارضة النص. وأما الخامس: فلان النص مقدم على القياس بلفظه ومعناه، فكما لا يعتبر القياس في معارضة النص بإبطال حكمه لا يعتبر في ممارسته بإبطال لفظه. وفي بعض هذه الفصول يخالفنا الشافعي رحمه الله على ما نبينه. فأما المثال الأول وهو أن العدد معتبر في الشهادات المطلقة بالنص، وقد فسر الله تعالى الشاهدين برجلين أو رجل وامرأتين وذلك تنصيص على أدنى ما يكون من الحجة لاثبات الحق، ثم خص رسول الله صلى الله عليه وسلم خزيمة رضي الله عنه بقبول شهادته وحده، فكان ذلك حكما ثبت بالنص اختصاصه به كرامة له، فلم يجز تعليله أصلا حتى لا يثبت ذلك الحكم في شهادة غير خزيمة ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة لأن التعليل يبطل خصوصيته. وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بأن حل له تسع نسوة فقد ثبت بالنص أن الحل بالنكاح يقتصر على الاربعة ثم ظهرت خصوصية رسول الله عليه الصلاة والسلام بالزيادة بنص آخر فلم يكن ذلك قابلا للتعليل. وكذلك ظهرت خصوصيته بالنكاح (بغير مهر بالنص فلم يكن ذلك قابلا للتعليل. وقال الشافعي: قد ظهرت خصوصيته بالنكاح) بلفظ الهبة بالنص وهو قوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} فلم يجز التعليل فيه لتعدية الحكم إلى نكاح غيره. ولكنا نقول: المراد بالنص الموجب للتخصيص ملك البضع نكاحا بغير مهر، فإنه ذكر فعل الهبة وذلك يقتضي مصدرا، ثم قوله تعالى: {خالصة لك} نعت ذلك المصدر: أي إن وهبت نفسها للنبي هبة خالصة، بدليل قوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم}: أي من الابتغاء بالمال المقدر، فالفرض عبارة عن التقدير وذلك في المال يكون لا في لفظ النكاح والتزويج، أو المراد اختصاصه بالمرأة حتى لا تحل لاحد بعده فيتأدى هو بكون الغير شريكا له في فراشها من حيث الزمان، وعليه دل قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} ألا ترى أن معنى الكرامة بالاختصاص إنما تظهر فيما يتوهم فيه الحرج بإلزامه إياه وذلك لا يتحقق في اللفظ، فقد كان أفصح العرب لا يلحقه الحرج في لفظ النكاح والتزويج. ومن هذه الجملة اشتراط الاجل في السلم، فإنه حكم ثابت بالنص في هذا العقد خاصا، وهو قوله عليه السلام: من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم. فلا يجوز المصير فيه إلى التعليل حتى يجوز السلم حالا بالقياس على البيع بعلة أنه نوع بيع، لأن الأصل في جواز البيع اشتراط قيام المعقود عليه في تلك العاقد والقدرة على التسليم، حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه فسلمه لا يجوز، ثم ترك هذا الأصل في السلم رخصة بالنص وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم وهذا لأن المسلم فيه غير مقدور التسليم للعاقد عند العقد، ولا يصير مقدور التسليم له بنفس العقد، لأن العقد سبب للوجوب عليه وقدرته على التسليم يكون بما له لا بما عليه، ولكنه محتاج إلى مباشرة هذا العقد لتحصيل البدل مع عجزه عن تسليم المعقود عليه في الحال، وقدرته على ذلك بعد مضي مدة معلومة بطريق العادة إما بأن يكتسب أو يدرك غلاته بمجئ أوانه، فجوز الشرع هذا العقد مع عدم المعقود عليه في ملكه رخصة لحاجته، ولكن بطريق يقدر على التسليم عند وجوب التسليم عادة وذلك بأن يكون مؤجلا، فلم يجز التعليل فيه لكونه حكما خاصا ثبت الخصوصية فيه بالنص كما بينا. وكذلك قلنا: المنافع لا تضمن بالاتلاف والغصب، لأن وجوب الضمان يستدعي المالية والتقوم في المتلف وذلك لا يسبق الاحراز ولا تصور للاحراز في المنافع، ثم ثبوت المالية والتقوم فيها بالعقد حكم خاص ثبت بالنص، فلم يكن قابلا للتعليل. وكذلك إثبات المعادلة بينهما وبين الاعيان في موجب العقد الفاسد، والصحيح حكم خاص فيها، لانه لا مماثلة بين المنافع وبين الاعيان باعتبار الأصل، فالعين جوهر يقوم به العرض، والمنفعة عرض يقوم بالجوهر، والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى، وبين ما يبقى وبين ما لا يبقى تفاوت، فعرفنا أن ثبوت المساواة بينهما في مقتضى العقد حكم خاص ثابت بالنص فلا يقبل التعليل. وكذلك إلزام العقد على المنافع قبل وجودها حكم خاص ثبت للحاجة أو للضرورة، من حيث إنه لا يتصور العقد عليها بعد الوجود، لأن الموجود لا يبقى إلى وقت التسليم، وما لا يتأتى فيه التسليم بحكم العقد لا يكون محلا للعقد، فلا يجوز تعدية هذا الحكم بالتعليل إلى المحل الذي يتصور العقد عليه بعد الوجود، وهو نظير حل الميتة عند المخمصة، فإن ثبوته لما كان بطريق الضرورة لم يجز تعليله لتعدية ذلك الحكم إلى محل آخر. ومثال الفصل الثاني ما قال أبو حنيفة رحمه الله في جواز التوضي بنبيذ التمر، فإنه حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى ذلك الحكم (إلى سائر الانبذة، ووجوب الطهارة بالقهقهة في الصلاة حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يكن قابلا للتعليل حتى لا يتعدى الحكم) إلى صلاة الجنازة وسجدة التلاوة، لأن النص ورد في صلاة مطلقة وهي ما تشتمل على جميع أركان الصلاة. وكذلك بقاء الصوم مع الاكل والشرب ناسيا، فإنه معدول به عن القياس بالنص، لأن ركن الصوم ينعدم بالاكل مع النسيان، والركن هو الكف عن اقتضاء الشهوات، وأداء العبادة بعد فوات ركنها لا يتحقق، فعرفنا أنه عن معدول به عن القياس فلم يجز تعدية الحكم فيه إلى المخطئ والمكره والنائم يصب في حلقه بطريق التعليل. فإن قيل: قد عديتم حكم النص إلى الجماع، وقد ورد في الاكل والشرب وكان ذلك بطريق التعليل. قلنا: لا كذلك بل قد ثبت بالنص المساواة بين الاكل والشرب والجماع في حكم الصوم، وإن ركن الصوم هو الكف عن اقتضاء الشهوتين جميعا فيكون الحكم الثابت (بالنص) في أحدهما ثابتا في الآخر بالنص أيضا لا بالمقايسة، لانه ليس بينهما فرق في حكم الصوم الشرعي سوى اختلاف الاسم، فإن الاقدام على كل واحد منهما فيه تفويت ركن الصوم، لانه جناية على محل الفعل من بضع أو طعام، وهو نظير جزء الرقبة مع شق البطن فإنهما فعلان مختلفان في الاسم، وكل واحد منهما قتل موجب للقود بالنص لا بالقياس. وكذلك من به سلس البول يتوضأ لوقت كل صلاة كالمستحاضة، وكان الحكم في كل واحد منهما ثابتا بالنص لا بالقياس، لأن النص ورد عند استدامة العذر. وعلى هذا قلنا: من سبقه الحدث في خلال الصلاة بأي وجه سبقه فإنه يتوضأ ويبني على صلاته بالنص، وذلك حكم معدول به عن القياس، وإنما ورد النص في القئ والرعاف، ثم جعل ذلك ورودا في سائر الاحداث الموجبة للوضوء ولم يجعل ورودا في الحدث الموجب للاغتسال لتحقق المغايرة فيما بينهما. فإن قيل: فكذلك نقول في المكره والخاطئ، فالمساواة بينهما وبين الناسي ثابت من حيث إن كل واحد منهما غير قاصد إلى الجناية على الصوم. قلنا: نعم ولكن هذا إنما يستقيم إذا ثبت أن القصد معتبر في تفويت ركن الصوم، وإذا كان القصد لا يعتبر في تحقق ركن الصوم حتى إن من كان مغمى عليه في جميع النهار يتأدى ركن الصوم منه، فكذلك ترك القصد لا يمنع تحقق فوات ركن الصوم، وكذلك مع عدم القصد قد يتحقق فوات ركن الصوم وانعدام الاداء به، فإن من أغمى قبل غروب الشمس وبقي كذلك إلى آخر الغد فإنه لا يكون صائما، وإن انعدم منه القصد إلى ترك الصوم، ثم لا مساواة أيضا بين الخاطئ والمكره وبين الناسي فيما يرجع إلى عدم القصد، فإن الخاطئ إنما انعدام القصد منه باعتبار قصده إلى المضمضة، وإنما ابتلي بالشرب خطأ بطريق يمكن التحرز عنه. وأما الناسي فانعدم القصد منه لعدم علمه بالصوم أصلا وذلك بنسيان لا صنع له فيه، وإليه أشار عليه السلام في قوله: إن الله أطعمك وسقاك ولما كان سبب العذر ممن له الحق على وجه لا صنع للعباد فيه استقام أن يجعل الركن باعتباره قائما حكما، فأما في المكره والنائم سبب العذر جاء من جهة العباد، والحق في أداء الصوم لله فلم يكن هذا في (معنى) سبب كان ممن له الحق، ألا ترى أن المريض يصلي قاعدا ثم لا تلزمه الاعادة إذا برأ، والمقيد يصلي قاعدا ثم تلزمه الاعادة إذا رفع القيد عنه. وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: الذي شج في صلاته لا يبني بعد الوضوء، والذي ابتلي بقئ أو رعاف يبني على صلاته بعد الوضوء، لما أن ذلك حكم معدول به عن القياس بالنص فلم يجز التعليل فيه، وما يبتنى على صنع العباد ليس نظير ما لا صنع للعباد من كل وجه. ومن هذه الجملة قلنا: حل الذبيحة مع ترك التسمية ناسيا حكم معدول به عن القياس بالنص، فلم يجز تعليله لتعدية الحكم إلى العامد ولا مساواة بينهما، فالناسي معذور غير معرض عن ذكر اسم الله تعالى، والعامد جان معرض عن ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة. ومن أصحابنا من ظن أن المستحسنات كلها بهذه الصفة وليس كما ظن، فالمستحسن قد يكون معدولا به عن القياس، وقد يكون ثابتا بنوع من القياس إلا أنه قياس خفي على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى. ومن أصحابنا من ظن أن في الحكم الذي يكون ثابتا بالنص فيه معنى معقول، إلا أنه يعارض ذلك المعنى معان أخر تخالفه، فالجواب فيه كذلك، إلا أنه لا يجوز التعليل فيه وليس كذلك، فإن الأصل بمنزلة الراوي والوصف الذي به تعلل بمنزلة الحديث، وفي رواية الاخبار قد يقع الترجيح باعتبار كثرة الرواة على ما بينا، ولكن به لا يخرج من أن تكون رواية الواحد معتبرا، فعرفنا أنه متى كان النص معقول المعنى فإنه يجوز تعليله بذلك المعنى ليتعدى الحكم به إلى فرع، وإن عارض ذلك المعنى معان أخر في الأصل، فإنه ليس من شرط التعليل للتعدية اعتبار جميع معاني الأصل. وأما الفصل الثالث: فهو أعظم هذه الوجوه فقها، وأعمها نفعا، وهو شرط واحد اسما ولكن يدخل تحته أصول. فمنها: أن الكلام متى كان من معنى اللغة فإنه لا يجوز المصير فيه إلى الاثبات بالقياس الشرعي. وبيان هذا في اليمين الغموس، فإن علماءنا قالوا إنها لا تنعقد موجبة للكفارة، لانها ليست بيمين معقودة ووجوب الكفارة بالنص في اليمين المعقودة، وكان الاشتغال في الحكم بالتعليل بقوله يمين بالله مقصودة باطلا من الكلام، لأن الكلام في إثبات الاسم حقيقة، فعندنا هذه ليست بيمين حقيقة، وإنما سميت يمينا مجازا، لأن ارتكاب هذه الكبيرة كان باستعمال صورة اليمين كبيع الحر يسمى بيعا مجازا وإن لم يكن بيعا على الحقيقة، وإذا كان الكلام في إثبات اسم اليمين حقيقة وذلك لا يمكن معرفته بالقياس الشرعي كان الاشتغال به فضلا من الكلام، ولكن طريق معرفته التأمل في أصول أهل اللغة، وهم إنما وضعوا اليمين لتحقيق معنى الصدق من الخبر، فعرفنا أن ما ليس فيه توهم الصدق بوجه لا يكون محلا لليمين لخلوه عن فائدة، وبدون المحل لا يتصور انعقاد اليمين، ولذلك قال أبو حنيفة في اللواطة إنها لا توجب الحد، لانها ليست بزنا واشتغال الخصوم بتعليل نص الزنا لتعدية الحكم أو إثبات المساواة بينه وبين اللواطة يكون فاسدا، لأن طريق معرفة الاسم النظر في موضوعات أهل اللغة لا الاقيسة الشرعية. وكذلك سائر الاشربة سوى الخمر لا يجب الحد بشرب القليل ما لم يسكر، واشتغال الخصم بتعليل نص الخمر لتعدية الحكم أو لاثبات المساواة فاسد، لأن الكلام في إثبات هذا الاسم كسائر الاشربة. فإن قيل: اعتبار المعنى لاثبات المساواة في الاسم لغة لا شرعا، فالزنا عند أهل اللغة اسم لفعل فيه اقتضاء الشهوة على قصد سفح الماء دون النسل، ولهذا سموه سفاحا وسموا النكاح إحصانا، واللواطة مثل الزنا في هذا المعنى من كل وجه. وكذلك الخمر اسم لعين تحصل مخامرة العقل بشربه ولهذا لا يسمى العصير به قبل التخمر ولا بعد التخلل، وهذه الاشربة مساوية للخمر في هذا المعنى. قلنا هذا فاسد، لأن الاسماء الموضوعة للاعيان أو للاشخاص عند أهل اللغة المقصود بها تعريف المسمى وإحضاره بذلك الاسم لا تحقق ذلك الوصف في المسمى، بمنزلة الاسماء الموضوعة للرجال والنساء كزيد وعمر وبكر وما أشبهه، فكذلك أسماء الافعال كالزنا واللواطة وأسماء الاعيان كالخمر، وما هذه الدعوى إلا نظير ما يحكى عن بعض الموسوسين أنه كان يقول: أنا أبين المعنى في كل اسم لغة أنه لماذا وضع ذلك الاسم لغة لما يسمى به. فقيل له: لماذا يسمى الجرجير جرجيرا؟ فقال: لانه يتجرجر إذا ظهر على وجه الارض، أي يتحرك. فقيل له: فلحيتك تتحرك أيضا ولا تسمى جرجيرا ! فقيل له: لماذا سميت القارورة قارورة؟ قال: لانه يستقر فيها المائع. فقيل له: فجوفك أيضا يستقر فيه المائع ولا يسمى قارورة !. ولا شك أن الاشتغال بمثل هذا في الاسماء الموضوعة يكون من نوع الجنون. فإن قيل: الاحكام الشرعية إنما تبتنى على الاسامي الثابتة شرعا وذلك نوع من الاسامي لا يعرفه أهل اللغة كاسم الصلاة للاركان المعلومة، واسم المنافق لبعض الاشخاص. وما أشبه ذلك. قلنا: الاسماء الثابتة شرعا تكون ثابتة بطريق معلوم شرعا كالاسماء الموضوعة لغة تكون ثابتة بطريق يعرفه أهل اللغة، ثم ذلك الاسم لا يختص بعلمه واحد من أهل اللغة، بل يشترك فيه جميع أهل اللغة لاشتراكهم في طريق معرفته، فكذلك هذا الاسم يشترك في معرفته جميع من يعرف أحكام الشرع، وما يكون بطريق الاستنباط والرأي فإنما يعرفه القايس، فبهذا يتبين أنه لا يجوز إثبات الاسم بالقياس على أي وجه كان، وعلى هذا لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النباش بالسارق في حكم القطع، لأن القطع بالنص واجب على السارق، فالكلام في إثبات اسم السرقة حقيقة وقد قدمنا البيان في نفي التسوية بين النباش والسارق في فعل السرقة، وهذا لأن الاسماء نوعان: حقيقة، ومجاز. فطريق معرفة الحقيقة هو السماع من أهل اللغة، وطريق معرفة المجاز منه الوقوف على استعارة أهل اللغة، ونحن نعلم أن طريق الاستعارة فيما بين أهل اللغة غير طريق التعدية في أحكام الشرع، فلا يمكن معرفة هذا النوع بالتعليل الذي هو لتعدية حكم الشرع. وعلى هذا قلنا: الاشتغال بالقياس لتصحيح استعارة ألفاظ الطلاق للعتق يكون باطلا، وإنما نشتغل فيه بالتأمل فيما هو طريق الاستعارة عند أهل اللغة. وكذلك الاشتغال بالقياس لاثبات الاستعارة في ألفاظ التمليك للنكاح يكون اشتغالا بما لا معنى له. وكذلك في إثبات استعارة لفظ النسب للعتق. وكذلك الاشتغال بالقياس في تصحيح إرادة العدد من لفظ الطلاق. والاشتغال بالقياس لاثبات الموافقة بين الشاهدين إذا شهد أحدهما بمائة والآخر بمائتين أو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة فإنما يكون من نوع هذا (فالحاجة فيه إلى إثبات الاسم وطريق الوقوف عليه التأمل في طريقه عند أهل اللغة) فكان الاشتغال بالقياس الشرعي فيه اشتغالا بما لا يفيد. وكذلك الاطعام في الكفارات فإن اشتراط التمليك فيه بالقياس على الكسوة باطل، لأن الكلام في معنى الاطعام المنصوص عليه ولا مدخل للقياس الشرعي في معرفة معنى الاسم لغة، وإنما الطريق فيه التأمل في معنى اللفظ لغة وهو فعل متعد فلازمه طعم وحقيقته فيما يصير المسكين به طاعما، وذلك بالتمكين من الاطعام، بمنزلة الايكال، ثم يجوز التمليك فيه بدلالة النص، فأما الكسوة فهو عبارة عن الملبوس دون فعل اللبس ودون منفعة الثوب وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك من المسكين، فأما الالباس فهو تمكين من الانتفاع بالملبوس. ومن هذه الجملة: الاختلاف في شرط التعدية، والمذهب عندنا أن تعليل النص بما لا يتعدى لا يجوز أصلا. وعند الشافعي هذا التعليل جائز ولكنه لا يكون مقايسة، وعلى هذا جوز هو تعليل نص الربا في الذهب والفضة بالثمينة وإن كانت لا تتعدى، فنحن لا نجوز ذلك. والمذهب عندنا أن حكم التعليل هو تعدية حكم الأصل إلى الفروع، وكل تعليل لا يفيد ذلك فهو خال عن حكمه، وعلى قوله حكم التعليل ثبوت الحكم في المنصوص بالعلة ثم تتعدى تلك العلة إلى الفروع تارة فيثبت بها الحكم في الفروع كما في الأصل، وتارة لا تتعدى فيبقى الحكم في الأصل ثابتا وبه يكون ذلك تعليلا مستقيما بمنزلة النص الذي هو عام مع النص الذي هو خاص. احتج وقال لأن التعليل بالرأي حجة لاثبات حكم الشرع فيكون بمنزلة سائر أنواع الحجج، وسائر الحجج من الكتاب والسنة أينما وجدت يثبت الحكم بها، فكذلك التعليل بالرأي إلا أن سائر الحجج تكون ثابت بغير صنع منا، والتعليل بالرأي إنما يحصل بصنعنا، ومتى وجد ذلك كان ثبوت الحكم مضافا إليه سواء تعدى إلى الفروع أو لم يتعد، وهذا لأن الشرط في الوصف الذي يتعلل الأصل به قيام دلالة التمييز بينه وبين سائر الاوصاف، وهذا المعنى يتحقق في الوصف الذي يقتصر على موضع النص وفي الوصف الذي يتعدى إلى محل آخر، وبعد ما وجد فيه شرط صحة التعليل به لا يثبت الحجر عن التعليل به إلا بمانع، فكونه غير متعد لا يصلح أن يكون مانعا إنما المانع ما يخرجه من أن يكون حجة، وانعدام وصف التعدي فيه لا يخرجه من أن يكون حجة كالنص. والجواب عن هذا الكلام بما هو الحجة لنا، وهو أن الحجج الشرعية لا بد أن تكون موجبة علما أو عملا، والتعليل بالرأي لا يوجب العلم بالاتفاق، فعرفنا أنه موجب للعمل وأنه باعتباره يصير حجة، والموجب للعمل ما يكون متعديا إلى الفروع، لأن وجوب العمل بالعلة إنما يظهر في الفرع، فأما الأصل فقد كان موجبا للعمل في المحل الذي تناوله قبل التعليل، فإذا خلا عن التعليل لم يكن موجبا شيئا فلا يكون حجة شرعا. فإن قيل: وجوب العمل في الأصل بعد أن التعليل يصير مضافا إلى العلة كما أن في الفرع بعد التعدية يصير وجوب العمل مضافا إلى العلة. قلنا: هذا فاسد، لأن قبل التعليل كان وجوب العمل بالنص، والتعليل لا يجوز على وجه يكون مغيرا حكم الأصل، فكيف يجوز على وجه يكون مبطلا حكم الأصل وهو إضافة وجوب العمل إليه، ألا ترى أن وجوب العمل به لما كان مضافا إلى النص قبل التعليل بقي مضافا إليه بعد التعليل، وبه يتبين أن النص أقوى والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي، فيكون الحكم وهو وجوب العمل في الأصل مضافا إلى أقوى الحجتين وهو النص بعد التعليل كما كان قبله. واعتباره الأصل بالفرع في أن الحكم فيه يكون مضافا إلى العلة في نهاية الفساد، لأن الفرع يعتبر الأصل، فأما الأصل لا يعتبر بالفرع في معرفة حكمه بحال. فإن قيل مع هذا: التعليل صحيح ليثبت به تخصيص الأصل بذلك الحكم. قلنا: وهذا ثابت قبل التعليل بالنص، ثم تعليل الأصل بوصف لا يتعدى لا يمنع تعليله بوصف آخر يتعدى إذا وجد فيه ما هو شرط العلة، لانه كما يجوز أن يجتمع في الأصل وصفان كل واحد منهما يتعدى إلى فروع وأحدهما أكثر تعدية من الآخر يجوز أن يجتمع وصفان يتعدى أحدهما ولا يتعدى الآخر، فبهذا تبين أن هذا التعليل لا يوجب تخصيص الأصل أيضا. وكيف يقال هذا وبالاجماع بيننا وبينه انعدام العلة لا يوجب انعدام الحكم على ما نبينه في بابه إن شاء الله تعالى، وإنما يكون التعليل بما لا يتعدى موجبا تخصيص الأصل إذا كان الحكم ينعدم بانعدام العلة كما يوجد بوجودها. ومن هذه الجملة: تعليل الأصل لتعدية الحكم إلى موضع منصوص، فإن ذلك لا يجوز عندنا، نص عليه محمد السير الكبير، وقال: النص الوارد في هدي المتعة لا يجوز تعليله لتعدية حكم الصوم فيه إلى هدي الاحصار، لأن ذلك منصوص عليه وإنما يقاس بالرأي على المنصوص ولا يقاس المنصوص على المنصوص. والشافعي يجوز هذا التعليل لاثبات زيادة في حكم النص الآخر بالتعليل، ولهذا قال: يجوز تعليله على وجه يوجب زيادة في حكم النص الآخر لا على وجه يوجب ما هو خلاف حكم النص الآخر، لأن وجوب الزيادة به إذا كان النص الآخر ساكتا عنه يكون بيانا، والكلام وإن كان ظاهرا فهو يحتمل زيادة البيان، ولكنه لا يحتمل من الحكم ما هو خلاف موجبه، والتعليل ليحصل به زيادة البيان، فلهذا جوزنا تعليل النص بوصف يتعدى إلى ما فيه نص آخر لاثبات الزيادة فيه، ولكنا نقول: الحكم الثابت بالتعليل في المحل الذي فيه نص إما أن يكون موافقا للحكم الثابت فيه بذلك النص أو مخالفا له، وعند الموافقة لا يفيد هذا التعليل شيئا، لأن الحكم في ذلك الموضع مضاف إلى النص الوارد فيه فلا يصير بتعليل نص آخر مضافا إلى العلة، كما لا يصير الحكم في النص المعلول مضافا إلى العلة بعد التعليل كما قررنا، وإن كان مخالفا له فهو باطل، لأن التعليل في معارضة النص أو فيما يبطل حكم النص باطل بالاتفاق، وإن كان زائدا فيه فهو مغير أيضا بحكم ذلك النص، لأن جميع الحكم قبل التعليل في ذلك الموضع ما أوجبه النص الوارد فيه وبعد التعليل يصير بعضه والبعض غير الكل، فعرفنا أنه لا يخلو هذا التعليل من أن يكون مغيرا حكم النص، وتبين بهذا أن الكلام في هذا الفصل بناء على ما قدمنا أن الزيادة على النص عندنا بمنزلة النسخ، فكما لا يجوز إثبات نسخ المنصوص بالتعليل بالرأي فكذلك لا يجوز إثبات الزيادة فيه. ثم بيان قولنا: إن شرط التعليل تعدية حكم النص بعينه في مواضيع، منها أنا لا نجوز تعليل نص الربا في الاشياء الاربعة بالطعم، لأن الحكم في النصوص كلها إثبات حرمة متناهية بالتساوي، وصفة الطعم توجب تعدية الحكم إلى محال تكون الحرمة فيها مطلقة غير متناهية، وهي المطعومات التي لا تدخل تحت المعيار، فعرفنا أن هذا الوصف لا يوجب تعدية حكم النص بعينه، إذ الحرمة المتناهية غير الحرمة المؤبدة، ألا ترى أن الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة غير الحرمة الثابتة بالتطليقات الثلاث، ولهذا قلنا: إن النقود لا تتعين في العقود بالتعيين، بخلاف ما يقوله الشافعي إنها متعينة في الملك وتعيينها في العقد مفيد فتتعين بالتعيين كالسلع. وهذا لأن هذا التعليل لا يوجب تعدية حكم الأصل بعينه، فحكم البيع في السلع وجوب الملك به فيها لا وجودها في نفسها، ولهذا لا بد من قيامها في ملك البائع عند العقد ليصح العقد، وحكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها بالعقد، ولهذا لا يشترط قيام الثمن في ملك المشتري عند العقد لصحة العقد، ويجوز العقد بدون تعيينه لا على اعتبار أنه بمنزلة السلع، ولكن يسقط اعتبار وجوده بطريق الرخصة، فإن هذا الحكم فيما وراء موضع الرخصة ثابت حتى يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يجب جبر النقص المتمكن فيه عند عدم التعيين بذكر الاجل ولا بقبض ما يقابله في المجلس بخلاف السلم، فعرفنا أن الحكم الأصلي في الثمن ما بينا، وفي التعيين تغيير لذلك الحكم وجعل ما هو الركن شرطا، وأي التغيير أبلغ من هذا. فتبين بهذا أنه ليس في هذا التعليل تعدية حكم النص بعينه بل إثبات حكم آخر في الفرع، ولهذا قلنا إن إظهار الذمي باطل، لأن حكم الظهار في حق المسلم أنه يثبت به حرمة متناهية بالكفارة، فتعليل هذا الأصل بما يوجب تعدية الحكم إلى الذمي يكون باطلا، لانه لا يثبت به حكم الأصل بعينه وهو الحرمة المتناهية، فإن الذمي ليس من أهل الكفارة مطلقا. وبيان قولنا: إلى فرع: هو نظيره في فصول، منها ما بينا أنه لا يجوز تعليل النص الوارد في الناسي بالعذر ليتعدى الحكم به إلى الخاطئ والمكره، لأن الفرع ليس بنظير للاصل، فعذرهما دون عذر الناسي فيما هو المقصود بالحكم، لأن عذر الخاطئ لا ينفك عن تقصير من جهته بترك المبالغة في التحرز، وعذر المكره باعتبار صنع هو مضاف إلى العباد فلا تجوز تعدية الحكم للتعليل إلى ما ليس بنظير به. وكذلك قلنا: شرط النية في التيمم لا يجوز تعليله بأنه طهارة حكمية ليتعدى الحكم به إلى الوضوء، فإن الفرع ليس بنظير الأصل في كونه طهارة، لأن التيمم باعتبار الأصل تلويث وهو لا يكون رافعا للحدث بيقين بخلاف الطهارة بالماء، ولهذا أمثلة كثيرة. فإن قيل: فقد أوجبتم الكفارة بالاكل والشرب في رمضان على طريق تعدية حكم النص الوارد في الجماع إليه مع أن الاكل والشرب ليس بنظير للجماع لما في الجماع من الجناية على محل الفعل، ولهذا يتعلق به الحد رجما في غير الملك وذلك لا يوجد في الاكل والشرب، وأثبتم حرمة المصاهرة بالزنا بطريق تعدية الحكم من الوطئ الحلال إليه وهو ليس بنظير له فلان الأصل حلال يثبت به النسب والزنا حرام لا يثبت به النسب، وكذلك أثبتم الملك الذي هو حكم البيع بالغصب وهو ليس بنظير له، فالبيع مشروع والغصب عدوان محض وهو ضد المشروع. قلنا: أما في مسألة الكفارة فنحن ما أوجبنا الكفارة بطريق التعليل بالرأي، فكيف يقال هذا ! ومن أصلنا أن إثبات الكفارات بالقياس لا يجوز خصوصا في كفارة الفطر فإنها تنزع إلى العقوبات كالحد، ولكن إنما أوجبنا الكفارة بالنص الوارد بلفظ الفطر، وهو قوله عليه السلام: من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر ثم قد بينا أنهما نظيران في حكم الصوم فإن ركن الصوم هو الكف عن اقتضاء الشهوتين، ووجوب الكفارة باعتبار الجناية على الصوم بتفويت ركنه على أبلغ الوجوه لا باعتبار الجناية على المحل، وفي الجناية على الصوم هما سواء، ووجوب الكفارة باعتبار الفطر (المفوت) لركن الصوم صورة ومعنى، والجماع آلة لذلك كالاكل والشرب. وما هذا إلا نظير إيجاب القصاص في القتل بالسهم والسيف، فإن القصاص يجب بالقتل العمد والسيف آلة لذلك الفعل، كالسهم، فلا يكون ذلك بطريق تعدية الحكم من محل إلى محل، إنما التعدية فيما قاله الخصم إن الكفارة تجب بجماع الميتة والبهيمة. وعندنا هذا التعليل باطل، لأن جماع الميتة والبهيمة ليس نظير جماع الاهل في تفويت ركن الصوم، فإن فوات الركن معنى بما تميل إليه الطباع السليمة لقصد قضاء الشهوة، وذلك يختص بمحل مشتهى وفرج الميتة والبهيمة ليس بهذه الصفة، فكان هذا تعليلا لتعدية الحكم إلى ما ليس بنظير للاصل فكان باطلا. فأما مسألة الزنا فالأصل في ثبوت الحرمة ليس هو الوطئ بالولد الذي يتخلق من الماءين إذا اجتمعا في الرحم، لانه من جملة البشر له من الحرمات ما لغيره من بني آدم، ثم تتعدى تلك الحرمة إلى الزوجين باعتبار أن انخلاق الولد كان من مائهما، فيثبت معنى الاتحاد بينهما بواسطة الولد، فيصير أمهاتها وبناتها في الحرمة عليه كأمهاته وبناته، ويصير آباؤه وأبناؤه في كونها محرمة عليهم كآبائها وأبنائها، ثم يقام ما هو السبب لاجتماع الماءين في الرحم وهو الوطئ مقام حقيقة الاجتماع لاثبات هذه الحرمة، وذلك بوطئ يختص بمحل الحرث، ولا معتبر بصفة الحل في هذا المعنى، ولا أثر لحرمة الوطئ في منع هذا المعنى الذي لاجله أقيم هذا السبب مقام ما هو الأصل في إثبات الحرمة، إلا أن إقامة السبب مقام ما هو الأصل فيما يكون مبنيا على الاحتياط وهو الحرمة والنسب ليس بنظيره في معنى الاحتياط، فلهذا لا يقام الوطئ مطلقا مقام ما هو الأصل حقيقة في إثبات النسب، ولا يدخل على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الاخوات والعمات على أن يجعل أخواتها كأخواته في حقه، لأن أصل الحرمة لا يمكن إثباته بالتعليل بالرأي، وإنما يثبت بالنص، والنص ما ورد بامتداد هذه الحرمة إلى الاخوات والعمات، فتعدية الحرمة إليهما تكون تغييرا لحكم النص، وقد بينا أن ذلك لا يجوز بالتعليل. وعلى هذا فصل الغصب، فإنا لا نوجب الملك به حكما للغصب، كما نوجبه بالبيع، وإنما نثبت الملك به شرطا للضمان الذي هو حكم الغصب، وذلك الضمان حكم مشروع كالبيع، وكون الأصل مشروعا يقتضي أن يكون شرطه مشروعا. وبيان قولنا: ولا نص فيه: في فصول، منها أنا لا نجوز القول بوجوب الكفارة في القتل العمد بالقياس على القتل الخطأ، لانه تعليل الأصل لتعدية الحكم إلى فرع فيه نص على حدة. ولا نجوز القول بوجوب الدية في العمد المحض بالقياس على الخطأ لهذا المعنى. ولا نوجب الكفارة في اليمين الغموس بالقياس على اليمين المعقودة على أمر في المستقبل لهذا المعنى أيضا. ولا نشترط صفة الايمان فيمن تصرف إليه الصدقات سوى الزكاة بالقياس على الزكاة، لما فيه من تعليل الأصل لتعدية الحكم إلى ما فيه نص آخر. ولا نشترط الايمان في الرقبة في كفارة الظهار واليمين بالقياس على كفارة القتل، لأن فيه تعليل الأصل لتعدية الحكم به إلى محل فيه نص آخر، وفيه تعرض لحكم النص الآخر بالتغيير فإن الاطلاق غير التقييد، وبعد ما ثبتت الرقبة مطلقا في كفارة اليمين والظهار فإثبات التقييد فيه بالايمان يكون تغييرا، كما أن إثبات صفة الاطلاق في المقيد يكون تغييرا، فإن الحرمة في الربائب لما تقيدت بالدخول، كان تعليل أمهات النساء لاثبات صفة الاطلاق في حرمة الربائب يكون تغييرا لا يجوز المصير إليه بالرأي، فكذلك إثبات التقييد فيما كان مطلقا بالنص. وبيان الفصل الرابع، وهو ما قلنا: إن الشرط أن يبقى حكم النص بعد التعليل في الأصل على ما كان قبله، فلانه لما ثبت أن التعليل لا يجوز أن يكون مغيرا حكم النص في الفروع ثبت بالطريق الأولى أنه لا يجوز أن يكون مغيرا حكم الأصل في نفسه، ففي كل موضع لا يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله، فذلك التعليل يكون باطلا، لكونه مغيرا لحكم الأصل، ولهذا لم نجوز التعليل في قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة بالقياس على المحدود في سائر الجرائم بعلة أنه محدود في كبيرة، لأن بعد هذا التعليل لا يبقى حكم النص الوارد فيه على ما كان قبله. فإن قيل: هذا التعليل يكون هو ساقط الشهادة بالنص أبدا ويكون ذلك متمما لحده، وبعد التعليل يتغير هذا الحكم، فإن الجلد قبل هذا التعليل يكون بعض الحد في حقه وبعده يكون تمام الحد، فيكون تغييرا على نحو ما قلنا في التغريب: إن الجلد إذا لم يضم إليه التغريب في زنا البكر يكون حدا كاملا، وإذا ضم إليه التغريب يكون بعض الحد. وكذلك تعليل الشافعي في إبطال شهادته بنفس القذف بالقياس على سائر الجرائم باطل، لانه تغيير للحكم بالنص، فإن مدة العجز عن إقامة أربعة من الشهداء بعد القذف ثابت بالنص لاقامة الجلد وإسقاط الشهادة، فكان إثباته بنفس القذف بدون اعتبار تلك المدة بطريق التعليل باطلا، لأن حكم النص لا يبقى بعد التعليل على ما كان قبله. وكذلك القول بسقوط شهادة الفاسق أصلا بالقياس على المحدود في القذف أو على العبد والصبي باطل، لأن الحكم الثابت بالنص في حق الفاسق التوقف في شهادته، وبعد تعيين جهة البطلان فيه لا يبقى التوقف، فحكم النص بعد هذا التعليل لا يبقى على ما كان قبله. وكذلك قلنا: الفرقة بين الزوجين لا تقع بلعان الزوج، لأن الحكم الثابت بالنص اللعان من الجانبين، وهي شهادات مؤكدة بالايمان وليس فيه ما يوجب الفرقة بينهما، وقد ثبت بالنص أنهما لا يجتمعان أبدا، وذلك أيضا لا يقتضي زوال الملك به كما بعد إسلام المرأة قبل إسلام الزوج، فإثبات حكم الفرقة بقذف الزوج عند لعانه لا يجوز بطريق التعليل، لانه لا يبقى حكم النص بعد هذا التعليل على ما كان قبله، فقبله المذكور جميع الحكم، وبعده يكون بعض الحكم، إلا أن بعد ما فرغا من اللعان يتحقق فوات الامساك بالمعروف ما داما مصرين على ذلك، واستحقاق الفرقة عند فوات الامساك بالمعروف يثبت موقوفا على قضاء القاضي به كما بعد إسلام أحد الزوجين إذا أبى الآخر الاسلام. وكذلك قلنا: إذا كذب الملاعن نفسه وضرب الحد جاز له أن يتزوجها، لأن الثابت بالنص أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وبعد الاكذاب لا يكون متلاعنا، بدليل أنه يقام عليه حد القذف فلا يجتمع اللعان والحد بقذف واحد، فمن ضرورة القول بإقامة الحد عليه أن لا يبقى ملاعنا، ولهذا لو أكذب نفسه قبل اللعان فإنه يقام الحد عليه ولا يلاعنها، فإذا خرج من أن يكون ملاعنا بإكذابه نفسه قلنا إن كان قبل قضاء قاضي بالفرقة لم يفرق بينهما، وإن كان بعد القضاء جاز له أن يتزوجها، لانا لو بقينا الحرمة بالقياس على الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة لم يبق حكم النص بعد التعليل على ما كان قبله، فإن قبل التعليل كان الثابت بالنص حرمة الاجتماع بين المتلاعنين، وبعد التعليل تكون حرمة الاجتماع بين غير المتلاعنين. فإن قيل: فقد فعلتم ما أنكرتموه في فصول، منها أن حكم نص الربا المساواة بين القليل والكثير قبل التعليل، ثم بعد التعليل خصصتم القليل من الحنطة فلم يبق حكم النص بعد التعليل بالكيل في المنصوص على ما كان قبله. وكذلك الشاة بصورتها ومعناها صار مستحقا للفقير بالنص، ثم بالتعليل بالمالية أبطلتم حقه عن الصورة فلم يبق حكم النص بعد التعليل في المنصوص على ما كان قبله، وجوزتم هذا التعليل لابطال حق المستحق مع أنه لا يجوز استعمال القياس في إبطال حق المستحق عن الصورة أو المعنى كما في سائر حقوق العباد. وقد ثبت بالنص حق الاصناف في الصدقات لوجود الاضافة إليهم بلام التمليك، ثم بالتعليل بالحاجة غيرتم هذا الحكم في المنصوص وجوزتم الصرف إلى صنف واحد. وثبت بالنص وجوب التكفير بإطعام عشرة مساكين، ثم بالتعليل غيرتم هذا الحكم في المنصوص فجوزتم الصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام. وبالنص ثبت لزوم التكبير عند الشروع في الصلاة، ثم بالتعليل بالثناء وذكر الله على سبيل التعظيم غيرتم هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم افتتاح الصلاة بغير لفظ التكبير. وبالنص ثبت وجوب استعمال الماء لتطهير الثوب عن النجاسة، ثم غيرتم بالتعليل بكونه مزيلا للعين والاثر هذا الحكم في المنصوص حتى جوزتم تطهير الثوب النجس باستعمال سائر المائعات سوى الماء. قلنا: أما الأول فهو دعوى من غير تأمل، وإنا ما خصصنا القليل من البر إلا بالنص، فإن النص قوله عليه السلام: لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء والأصل في الاستثناء من النفي أن المستثنى منه في معنى المستثني، وعلى هذا بنى علماؤنا مسائل: في الجامع: إذا قال إن كان في هذه الدار إلا رجل فعبده حر، فإذا في الدار سوى الرجل دابة أو ثوب لم يحنث، وإن كان فيها سوى الرجل امرأة أو صبي حنث. ولو كان قال إلا حمارا فإذا فيها حيوان آخر سوى الحمار يحنث، وإن كان فيها ثوب سوى الحمار لم يحنث، وإن كان قال إلا ثوب فأي شئ يكون في الدار سوى الثوب مما هو مقصود بالامساك في الدور يحنث، فعرفنا أن المستثنى منه في معنى المستثنى، والمستثنى هنا حال التساوي في الكيل، واستثناء الحال من العين لا يكون، فعرفنا بدلالة النص أن المستثنى من عموم الاحوال حال التساوي وحال المجازفة وحالة التفاضل، وهذا لا يتحقق إلا في الكثير، وإلا فيما يكون مقدرا شرعا، فعرفنا أن اختصاص القليل كان بدلالة النص وأنه كان مصاحبا للتعليل لا أن يكون ثابتا بالتعليل. وأما الزكاة فنحن لا نبطل بالتعليل شيئا من الحق المستحق لانه تبين خطأ من يقول بأن الزكاة حق الفقراء مستحقة لهم شرعا، بل الزكاة محض حق الله تعالى، فإنها عبادة محضة وهي من أركان الدين، وهذا الوصف لا يليق بما هو حق العبد، ومعنى العبادة فيها أن المؤدي يجعل ذلك القدر من ماله خالصا لله تعالى حتى يكون مطهرا لنفسه وماله، ثم يصرفه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى، فإنه وعد الرزق لعباده وهو لا يخلف الميعاد، ومعلوم أن حاجات العباد تختلف، فالامر بإنجاز المواعيد لهم من مال مسمى يتضمن الاذن في الاستبدال ضرورة ليكون المصروف إلى كل واحد منهم عين الموعود له، بمنزلة السلطان يجيز أولياءه بجوائز مختلفة يكتبها لهم ثم يأمر واحدا بإيفاء ذلك كله من مال يسميه بعينه، فإنه يكون ذلك إذنا له في الاستبدال ضرورة والثابت بضرورة النص كالثابت بالنص، فعرفنا أن ذلك كان ثابتا بالنص ولكنه كان مجامعا للتعليل، ثم التعليل بحكم شرعي لا بحق مستحق لاحد، فإن المؤدى بعد ما صار لله تعالى بابتداء يد الفقير يكون كفاية له من الله باستدامة اليد فيه، وثبت بهذا النص كونه محلا صالحا لكفاية الفقير، وصلاحية المحل وعدم صلاحيته حكم شرعي كالخمر لا يكون محلا صالحا للبيع والخل يكون محلا صالحا له، وهذه الصلاحية تثبت بالامر بالصرف إلى الفقير، لأن باعتبار كونه مطهرا يصير من جملة الاوساخ، وإليه أشار عليه السلام في قوله: يا معشر بني هاشم إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس، وعوضكم منها خمس الخمس فتبين أنه بمنزلة الماء المستعمل، ولهذا كان الحكم في شريعة من قبلنا أن الصدقات المقبولة والقرابين كانت تأكلها النار ولا يجوز الانتفاع بها، وفي شريعتنا لا يحل شئ منها للغني ويحل للفقير لحاجته، بمنزلة حل الميتة عند الضرورة، فعرفنا أن حكم النص صلاحية المحل للصرف إلى كفاية الفقير، وبعد التعليل تبقى هذه الصلاحية كما كانت قبلها ويتعدى حكم الصلاحية إلى سائر المحال كما هو حكم التعليل في القياس الشرعي، وبهذا يتبين أن اللام في قوله: للفقراء لام العاقبة، أي تصير لهم باعتبار العاقبة، ولكن بعد تمام أداء الصدقات يجعل المال لله بابتداء التسليم إلى الفقراء، أو يكون المراد بيان المصرف الذي يكون المال بقبضهم لله تعالى خالصا هو، لا بمنزلة الكعبة فإن الاركان باعتبار التوجه إليها تصير صلاة لا أن تكون الصلاة حقا للكعبة، ثم كل صنف من هذه الاصناف جزء من المصارف بمنزلة جزء من الكعبة، واستقبال جزء منها كاستقبال جميعها في حكم الصلاة وهو ثابت بالنص لا بالتعليل، فكذلك الصرف إلى صنف لما فيه من سد خلة المحتاج بمنزلة الصرف إلى الاصناف لا بطريق التعليل. وحكم الاطعام كذلك، فإن حكم النص أن المساكين العشرة محل لصرف طعام الكفارة إليهم، وهذا الحكم باق في المنصوص بعد التعليل كما قبله، ولكن ثبت بدلالة النص للتنصيص على صفة المسكنة في المصروف إليه أن المطلوب سد الخلة، وعلم يقينا تجدد الحاجة للمسكين بتجدد الايام فصار بدلالة النص ما يقع به التكفير سد عشر خلات وهو ثابت بالصرف إلى مسكين واحد في عشرة أيام كما يثبت بالصرف إلى عشرة مساكين. وأما التكبير فلا نقول حكم النص وجوب التكبير بعينه عند الشروع في الصلاة، ولكن الواجب التعظيم باللسان، لأن اللسان من الاعضاء الظاهرة من وجه، والصلاة تعظيم الله تعالى بجميع الاعضاء، فتعلق بكل عضو ما يليق به من التعظيم، ثم التعظيم باللسان يكون بالثناء والذكر، فكان ذكر الله على سبيل التعظيم لتحقيق أداء الفعل المتعلق باللسان، ولا عمل لذلك الفعل في تعيين التكبير، بل التكبير آلة صالحة لذلك، وقد بقيت بعد هذا التعليل آلة صالحة لاقامة هذا الفعل بها كما قبل التعليل. وكذلك غسل النجاسة بالمائعات فالمستحق ليس هو الغسل بعينه بل إزالة النجاسة عن الثوب حتى لا يكون مستعملا لها عند لبسه، ألا ترى أنه لو قطع موضع النجاسة بالمقراض أو ألقى ذلك الثوب أصلا لم يلزمه الغسل، ثم الماء آلة صالحة لازالة النجاسة باستعماله، وبعد التعليل يبقى كذلك آلة صالحة لازالة النجاسة لاستعماله، وحكم الغسل طهارة المحل باعتبار أنه لم يبق فيه عين النجاسة ولا أثرها، فكل مائع ينعصر بالعصر فهو يعمل عمل الماء في المحل، ثم طهارة المحل في الأصل وانعدام ثبوت صفة النجاسة في المزيل بابتداء ملاقاة النجاسة إلى أن يزايل الثوب بالعصر حكم شرعي ثبت بالنص، وبالتعليل تعدى هذا الحكم إلى الفروع وبقي في الأصل على ما كان قبل التعليل. ولا يدخل على هذا التطهير من الحدث بسائر المائعات سوى الماء، لأن عمل الماء في إزالة عين عن المحل الذي يلاقيه، أو في إثبات صفة الطهارة للمحل بواسطة الازالة، وليس في أعضاء المحدث عين تزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانع حكمي من أداء الصلاة غير معقول المعنى، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعنى، وقد بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر. ولا يدخل على هذا الجواب تصحيح الوضوء بغير النية كغسل النجاسة، لأن الذي لا يعقل المعنى فيه ما هو مزال عن المحل عند استعمال الماء، فأما الماء في كونه مزيلا إذا استعمل في المحل معقول المعنى فلا حاجة إلى اشتراط النية لحصول الازالة به كما في غسل النجاسات، فعلم أن هذه الحدود إنما يقف المرء عليها عند التأمل عن إنصاف. وأما بيان القسم الخامس ففيما قاله علماؤنا: إنه لا يجوز قياس السباع سوى الخمس المؤذيات على الخمس بطريق التعليل في إباحة قتلها للمحرم وفي الحرم، لأن في النص قال عليه الصلاة والسلام: خمس يقتلن في الحل والحرم وإذا تعدى الحكم إلى محل آخر يكون أكثر من خمس فكان في هذا التعليل إبطال لفظ من ألفاظ النص، بخلاف حكم الربا فإن النبي عليه السلام لم يقل الربا في ستة أشياء، ولكن ذكر حكم الربا في أشياء فلا يكون في تعليل ذلك النص إبطال شئ من ألفاظ النص. ومن هذا النوع تعليل الشافعي حكم الربا في الاشياء الاربعة بالطعم فإن في النص قال عليه الصلاة والسلام: والفضل ربا: أي الفضل حرام يفسد به العقد لانه ربا، والتعليل بالطعم يبطل كون الفضل ربا، لانه يقول بعلة الطعم فساد البيع في هذه الاموال أصل إلى أن يوجد المخلص وهو المساواة في المعيار الشرعي، فيكون هذا إبطالا لبعض ألفاظ النص. ومن ذلك تعليله لرد شهادة القاذف للفسق الثابت بالقذف، فإنه إبطال لبعض ألفاظ النص وهو قوله تعالى: {أبدا} فإن رد الشهادة باعتبار الفسق لا يتأبد، فكيف يتأبد وسببه وهو الفسق بعرض أن ينعدم بالتوبة، فكان هذا تعليلا باطلا لتضمنه إبطال لفظ من ألفاظ النص. ومن جملة ما لا يكون استعمال القياس فيه طريقا لمعرفة الحكم، النذر بصوم يوم النحر، وأداء الظهر يوم الجمعة في المصر بغير عذر قبل أداء الناس الجمعة، وفساد العقد لسبب الربا، فإن الكلام في هذه الفصول في موجب النهي وأن عمله بأي قدر يكون، والنهي أحد أقسام الكلام كالامر، فيكون طريق معرفته موجبة عند الاطلاق التأمل في معاني كلام أهل اللسان دون القياس الشرعي. ومن ذلك الكلام في الملك الثابت للزوج على المرأة بالنكاح أنه في حكم ملك العين أو في حكم ملك المنفعة، فإنه لا مدخل للقياس الشرعي فيه، لأن بعد النكاح نفسها وأعضاؤها ومنافعها مملوكة لها فيما سوى المستوفى منها بالوطئ على ما كان قبل النكاح، فإثبات ملك عليها بدون تمكن الاشارة إلى شئ من عينها أنه مملوك عليها يكون حكما ثابتا بخلاف القياس، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل وأنه ملك ضروري ظهر شرعا لتحقق الحاجة إلى تحصيل السكن والنسل بمنزلة حل الميتة عند الضرورة فلا يقبل التعليل، ولأن التعليل إنما يجوز بشرط أن يكون الفرع نظير الأصل في الحكم الذي يقع التعليل له، ولا نظير لملك النكاح من سائر أنواع الملك، لأن سائر أنواع الملك يثبت في محل مخلوق ليكون مملوكا للآدمي، وهذا الملك في الأصل يثبت على حرة هي مخلوقة لتكون مالكة، وأي مباينة فوق المالكية والمملوكية، فإذا ثبت أنه لا نظير لهذا الملك من سائر الاملاك ثبت أنه لا يمكن المصير إلى التعليل فيه لمعرفة صفته. ومن ذلك الكلام في موجب الالفاظ حتى يصير في الرهن أنه يد الاستيفاء حقا للمرتهن، بمنزلة اليد التي تثبت في المحل بحقيقة الاستيفاء، أم حق البيع في الدين، ثم اليد شرط لتتميم السبب كما في الهبة اليد شرط لتتميم السبب، والحكم ثبوت الملك في المحل بطريق العلة، فهذا مما لا يمكن إثباته (في القياس) بالقياس الشرعي، لأن أحكام العقود مختلفة شرعا ووضعا، وباعتبار الاختلاف يعلم أنه ليس بعضها نظيرا للبعض، ومن شرط صحة التعليل أن يكون الفرع نظيرا للاصل، بل طريق معرفة حكم الرهن التأمل فيما لاجله وضع هذا العقد وشرع، فنقول: إنه مشروع ليكون وثيقة لجانب الاستيفاء لا مؤكدا للوجوب، ألا ترى أنه يختص بالمال الذي هو محل للاستيفاء فأما محل الوجوب فالذمة، وإذا كان وثيقة لجانب الاستيفاء علم أن موجبه من جنس ما يثبت بحقيقة الاستيفاء، والثابت بحقيقة الاستيفاء ملك العين وملك اليد، ثم بالرهن لا يثبت ملك العين. فعرفنا أن موجبه ملك يد الاستيفاء بمنزلة الكفالة فإنها وثيقة لجانب الوجوب ولهذا اختصت بالذمة، ثم كان موجبها من جنس ما يثبت بحقيقة الوجوب وهو ملك المطالبة، لأن الثابت بالحقيقة ملك أصل الدين في ذمة من يجب عليه وثبوت حق المطالبة بالاداء، فالثابت بالوثيقة التي هي لجانب الوجوب من جنسه وهو حق المطالبة حتى يملك مطالبة الكفيل بالدين مع بقاء أصله في ذمة المديون. ومن ذلك الكلام في المعتدة بعد البينونة أنه هل يقع عليها الطلاق؟ فإن تعليل الخصم بأنه ليس له عليها ملك متعة ولا رجعة لا يلحقها طلاقه كمنقضية العدة تعليل باطل، لأن الخلاف في أن العدة التي هي حق من حقوق النكاح هل تكون بمنزلة أصل النكاح في بقائها محلا لوقوع الطلاق عليها باعتباره أم لا؟ وفي منقضية (العدة) لا عدة، ففي أي وجه يستقيم هذا التعليل ليثبت به هذا الحكم للخصم؟ وكذلك هذا التعليل في نكاح الاخت في عدة الاخت بعد البينونة من الخصم باطل، لأن الكلام في أن العدة التي هي حق النكاح هل تقوم مقام النكاح في بقاء المنع الثابت بسبب النكاح أم لا؟ وفي منقضية العدة لا عدة، وهذا لأن النافي ينكر أن يكون الحكم مشروعا وما ليس بمشروع كيف يمكن إثباته بالقياس الشرعي. ومن هذا النوع تعليله في إسلام المروي في المروي، لأن العقد جمع بدلين لا يجري فيهما ربا الفضل فكان بمنزلة الهروي مع المروي، لأن الكلام في أن الجنس هل هو علة لتحريم النساء، وفي الهروي مع المروي لا جنس، وبهذا تبين أن حجة المدعي المثبت غير حجة المنكر النافي. ومن هذا النوع الكلام فيما إذا قال لامرأته أنت طالق تطليقة بائنة أن الرجعة تنقطع بهذا اللفظ أم لا؟ فإن تعليل الخصم بأنه ما اعتاض عن طلاقها يكون تعليلا باطلا، لأن الكلام في أن صفة البينونة هل هي مملوكة للزوج بالنكاح كأصل الطلاق أم لا؟ فالخصم ينكر كون ذلك مملوكا له، ونحن نقول إن ذلك مملوك له وإنما لم يثبت بصريح لفظ الطلاق لا لانه غير مملوك له بل لانه ساكت عن هذه الصفة، فإن وصفها بالطلاق يجامع النكاح ابتداء وبقاء، فإنما طريق معرفة هذا الحكم التأمل في موضوع هذا الملك وفيما صار له أصل الطلاق مملوكا له، فإذا ثبت باعتباره أن الوصف مملوك له كان التصريح به بذلك الوصف عملا، وعند عدم التصريح به لا يثبت لأن سببه لم يوجد، كما لا يثبت أصل الطلاق إذا لم يوجد منه التكلم بلفظ الطلاق أو بلفظ آخر قائما مقامه. ومن هذا النوع تعليل الخصم في عقد الاجارة أنها توجب ملك البدل في الحال بالقياس على عقد البيع، فإن شرط صحة القياس أن يكون الأصل والفرع نظيرين، وفي باب البيع ما هو المعقود عليه قائم مملوك في الحال، وفي الاجارة ما هو المعقود عليه معدوم غير مملوك عند العقد، فعلم أنهما متغايران، وإذا لم يكن أحدهما نظيرا للآخر في الحكم الذي وقع التعليل لاجله لا يستقيم تعدية الحكم من أحدهما إلى الآخر بالقياس الشرعي. ومن نوع ما بدأنا به هذا الفصل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للاعرابي في حديث كفارة الفطر كلها أنت وعيالك فإن من الناس من اشتغل بتعليل ذلك لتعدية الحكم إلى غير الاعرابي فيتطرق به (إلى) القول بانتساخ حكم الكفارة وذلك لا يجوز عندنا، لأن النبي عليه السلام خص الاعرابي بصحة التكفير منه بالصرف إلى نفسه وعياله، وكان ذلك بطريق الاكرام له، وقد بينا أن مثل هذا لا يقبل التعليل، والله تعال أعلم.
|